الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى بالموت آمال القياصرة؛ فنقلهم الموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنسوان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادي يوم القيامة بعد فناء خلقه، ويقول: أنا الملك.. أنا الجبار.. أنا المتكبر.. لمن الملك اليوم؟
ثم يجيب على ذاته سبحانه:
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
[إبراهيم:48].
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، ولبى داعي ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلب، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد والإيمان كما تنشر الشمس في سائر الأكوان، رفع الله له ذكره، وشرح الله له صدره، وزكاه ربه على جميع الخلق، ومع ذلك خاطبه ربه بقوله:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
[الزمر:30]. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{9} وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ{10} وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{11} المنافقون
الموت ضد الحياة، ونقيضها.
قال القرطبي -رحمه الله- في تعريفه: "قال العلماء: الموت ليس بعدمٍ مَحْض، ولا فناء صِرْف، وإنما هو انقطاع تعلُق الروح بالبدن، ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتَبَدُّل حالٍ، وانتقال من دار إلى دار"
وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سنٌ معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم. وذلك ليكون المرء على أُهْبة من ذلك، مستعداً لذلك
أُهْبة:
جمع أُهُبات وأُهْبَات وأُهَب: استعداد
جمع أُهُبات وأُهْبَات وأُهَب: استعداد
فإنَّ الله تعالى قضى على عباده بالموت، كما قال تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ"،
والموتُ: هو مفارقةُ الروح للجسد، ولا يحصلُ ذلك إلا
بألمٍ عظيمٍ جداً، وهو أعظمُ الآلام التي تُصيب العبد في الدُّنيا،
والموتُ: هو مفارقةُ الروح للجسد، ولا يحصلُ ذلك إلا
بألمٍ عظيمٍ جداً، وهو أعظمُ الآلام التي تُصيب العبد في الدُّنيا،
قال عمر لِكعبٍ: أخبرني عن الموت، قال يا أميرَ المؤمنين، هو مثلُ شجرةٍ كثيرةِ الشَّوك في جوف ابنِ آدم، فليس منه عِرقٌ ولا مَفْصِل إلا ورجل شديد الذراعين، فهو يعالجها ينْزعها، فبكى عمر
أيها الإخوة والأخوات! أقوام يأتون، وآخرون يرحلون، أرحام تدفع، وأرض تبلع، مثلهم كمثلِ أمواج بحر متدفقة متلاحقة، إذا انكسرت على الشط موجة تبعتها موجة أخرى، أو كمثل نهر متدفق تراه دائماً يجرى مع أن الماء الذي تراه اللحظة غير الماء الذي رأيته قبل لحظة، وحتماً سيأتي اليوم الذي ينتهي فيه الوجود الإنساني كله، فتنطفئ نجوم الليل، وتتوقف موجات البحر، بل وتجف مياه العيون والآبار، ويقوم الجميع ليقفوا بين يدي العزيز الغفار؛ كما قال سبحانه:
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
[إبراهيم:48].
أيها الأخيار! لقد بين الله جل وعلا لنا الغاية التي من أجلها خلقنا فقال سبحانه:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذاريات:56]. وبين لنا حقيقة هذه الدنيا التي جعلها محل اختبار لنا فقال سبحانه:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
[الحديد:20]. وأكد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في حديثه الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال الحبيب: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). فالدنيا حقيرة عند الله، أعطاها للكافر والمؤمن على السواء، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء؛ لذا كان المصطفى يوصي أصحابه بعدم الركون والطمأنينة إلى هذه الدار، كما أوصى بذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري أنه قال له: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
ورحم الله من قال: إن لله عبـاداً فطنـا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحـي وطنـا جعلوها لجة واتخـذوا صالح الأعمال فيها سفنا
الفطناء العقلاء الأذكياء هم الذين عرفوا حقيقة الدار فحرثوها وزرعوها، وهنالك في الآخرة تجنى الثمار، فالذم الوارد في القرآن والسنة للدنيا لا يرجع إلى زمانها من ليل أو نهار؛ فلقد جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا لا يرجع إلى مكانها ألا وهو الأرض، إذ إن الله قد جعل الأرض لبني آدم سكناً ومستقراً، والذم الوارد للدنيا في القرآن والسنة لا يرجع إلى ما أودعها الله عز وجل من خيرات، فهذه الخيرات نعم الله على عباده وعلى الناس، وإنما الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا يرجع إلى كل معصية تُرتكب على ظهرها في حق ربنا جل وعلا، فلابد من تأصيل هذا الفهم، لاسيما لإخواننا الدعاة وطلاب العلم الذين ربما يغيب عن أذهانهم حقيقة الزهد في هذه الحياة الدنيا، فنحن لا نريد أن نقنط أحداً من هذه الحياة، ولا نريد أن نثبت لكل عامل في هذه الدنيا ولو كان في الحلال أنه تجاوز طريق الأنبياء والصالحين والأولياء، كلا! كلا! بل الدنيا مزرعة للآخرة.
أيها الأخيار! تدبروا معي قول علي بن أبى طالب رضي الله عنه: (الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن أخذ منها، الدنيا مهبط وحي الله، ومصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله). فالدنيا مزرعة الآخرة،
أيها الحبيب الكريم! تذكر هذه الحقيقة ولا تتغافل عنها؛ إذ إن النبي قد أمرنا أن نكثر من ذكرها، كما في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي والبيهقي والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إنها الحقيقة التي سماها الله في قرآنه بالحق فقال جل وعلا:
[ق:19-21].
قال عز وجل:
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ
[ق:19]، والحق: أنك تموت، والله حي لا يموت، والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. وقوله عز وجل:
ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
[ق:19] أي: ذلك ما كنت منه تخاف، ذلك ما كنت منه تهرب، فكيف تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ثم ماذا أيها القوي الفتي؟! أيها الذكي العبقري! يا أيها الوزير والأمير والكبير! ويا أيها الصغير والفقير والحقير! كلكم كما قال الشاعر: كل باكٍ فسيُبَكى كل ناعٍ فسيُنعى كل مدخور سيفنى كل مذكور سيُنسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى
دخل المزني على الإمام الشافعي في مرضه الذي توفي فيه
فقال له :كيف أصبحت يا أبا عبدالله ؟!
فقال الشافعي :
أصبحت من الدنيا راحلا, و للإخوان مفارقا , و لسوء عملي ملاقيا , و لكأس المنية شاربا , و على الله واردا , و لا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها , أم إلى النار فأعزيها , ثم أنشأ يقول :
فقال له :كيف أصبحت يا أبا عبدالله ؟!
فقال الشافعي :
أصبحت من الدنيا راحلا, و للإخوان مفارقا , و لسوء عملي ملاقيا , و لكأس المنية شاربا , و على الله واردا , و لا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها , أم إلى النار فأعزيها , ثم أنشأ يقول :
و لما قسـا قلبي و ضاقـت مذاهبي
جـعـلت رجـائي نحـو عفـوك سلـما
تعاظـمــني ذنبــي فلـما قرنتـه
بعـفــوك ربـي كـان عفوك أعظـما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل
تجـود و تعـفـو منــة و تكـرمـا
جـعـلت رجـائي نحـو عفـوك سلـما
تعاظـمــني ذنبــي فلـما قرنتـه
بعـفــوك ربـي كـان عفوك أعظـما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل
تجـود و تعـفـو منــة و تكـرمـا
وقال الشاعر الآخر:
كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهلِ مُنطَرِحــَاً * عَلى الفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُنــي
وَقد أَتَوْا بِطَبيبٍ كَـيْ يُعالِجَنـي * وَلَمْ أَرَ الطِّبَّ هـذا اليـومَ يَنْفَعُني
واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُـها * مِن كُلِّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ
واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها * وصـَارَ رِيقي مَريراً حِينَ غَرْغَرَني
وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا * بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا الكَفَنِ
وَقـامَ مَنْ كانَ حِبَّ النّاسِ في عَجَلٍ * نَحْوَ المُغَسِّلِ يَأْتينـي يُغَسِّلُنــي
وَقــالَ يـا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلاً حَذِقاً * حُراً أَرِيباً لَبِيبـاً عَارِفـاً فَطِنِ
فَجــاءَني رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني * مِنَ الثِّيــابِ وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني
وَأَوْدَعوني عَلى الأَلْواحِ مُنْطَرِحـاً * وَصـَارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يَنْظِفُني
وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني * غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ
وَأَلْبَسُوني ثِيابـاً لا كِمامَ لهـا * وَصارَ زَادي حَنُوطِي حيـنَ حَنَّطَني
وأَخْرَجوني مِنَ الدُّنيـا فَوا أَسَفاً * عَلى رَحِيـلٍ بِلا زادٍ يُبَلِّغُنـي
وَحَمَّلوني على الأْكتـافِ أَربَعَةٌ * مِنَ الرِّجـالِ وَخَلْفِي مَنْ يُشَيِّعُني
وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا * خَلْفَ الإِمـَامِ فَصَلَّى ثـمّ وَدَّعَني
قال جل وعلا:
(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل 32]
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الانعام 93] | |||||
| |||||
العلامات التي تدل على موت المحتضَر : -
1- شخوص البصر لحديث أم سلمة رضي الله عنها :
( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شَخَص بصره وأغمضه ثم قال : [ إن الروح إذا قبض تبعه البصر.. ] الحديث [ رواه مسلم وأحمد ].
2- انحراف الأنف عن اليمين أو الشمال.
3- ارتخاء الفك السفلي لارتخاء الأعضاء عموماً.
4- سكون القلب ، ووقوف ضرباته .
5- برودة الجسم عامة .
6- التفاف الساق الأيمن على الأيسر أو العكس ، لقوله تعالى : ( والتفَّتْ الساق بالساق ) . [ القيامة 29].
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الأحبة الكرام! هكذا تبدأ رحلتنا في رحاب الدار الآخرة بالموت بعدما بينا بإيجار حقيقة الدنيا، وهأنذا أذكر نفسي وأحبابي وأخواتي في هذه اللحظات بالتوبة إلى رب الأرض والسموات. يا من أسرف على نفسك بالمعاصي! يا من ضيع الصلاة في بيوت الله! يا من تركتِ الحجاب الشرعي! يا من شغلك التلفاز أو الشيطان عن الله عز وجل! يا من أعرض عن مجلس العلم وأماكن الخير والطاعة والعبادة! وتركت فرض الله عز وجل! تب إلى الله، والله! إنك ستموت .. والله! إنك ستموت، وغداً يا مسكين! ستتمنى الرجعة، كما قال عز وجل:
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ
[المؤمنون:99]. فإن كان كافراً سيتمنى الرجعة، وإن كان مسلماً عاصياً سيتمنى الرجعة:
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي
[المؤمنون:99-100] سبحان ربي! هو غير متأكد إن كان سيعمل صالحاً أو لن يعمل صالحاً، مع أنه يتمنى على الله أن يعود!
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ
[المؤمنون:99-100] فيأتيه الجواب كالصَفْعة على خديه:
كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ
[المؤمنون:100] أي: كلمة حقيرة، كلمة تافهة لا وزن لها عند الله:
هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
[المؤمنون:100]. فتب إلى الله، وأذكر نفسي وإياك ألا تيأس ولا تقنط مهما بلغت ذنوبك، فعد إلى الملك مهما كثرت معاصيك، واطرق باب الرحمن جل وعلا، والله! لن يغلق الرحمن الباب في وجهك، وإن ارتكبت الزنا، وإن شربت الخمر، وإن قتلت، فعد إلى الله، فإن الله يقبل توبة المشرك إن خلع رداء الكفر على عتبة الإسلام، كما قال عز وجل:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
[النساء:48]. وقال سبحانه:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
[الزمر:53]. فعاهد ربك الآن على التوبة، وعاهدي ربك على التوبة. قال عز وجل:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[التحريم:8]. وأذكرك بهذا الحديث الذي رواه مسلم والترمذيواللفظ للترمذي من حديث أنس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم ! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)،
فلا ينبغي أن تنشغل بالدار الفانية عن الدار الباقية، فغداً سترحل عن هذه الحياة، ولن ينفعك إلا ما قدمت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: ماله وأهله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع الأهل والمال، ويبقى العمل)
وينادى عليك هنالك في القبر بلسان الحال: رجعوا وتركوك، وفى التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي الذي لا يموت.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، اللهم لا تحرمنا الزيادة، اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، اللهم لا تحرمنا الزيادة. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا ألا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته. اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وسددته يا رب العالمين! ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده دوماً تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً.
أيها الأحبة! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.......
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق