الخميس، ١٧ شوال ١٤٣٢ هـ

من أسرار سورة الفجر

من أسرار سورة الفجر

كتبهاد:سيد مختار ، في 29 ديسمبر 2008 الساعة: 19:14 م

من أسرار القرآن
بقلم‏:‏د‏.‏ زغلـول النجـار


(283‏ ـ أ‏)‏ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد الفجر‏:9‏



هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم الثلث الأول من سورة الفجر‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها ثلاثون‏(30)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بالقسم بالفجر‏(‏ وقتا وصلاة‏).‏ ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية شأنها في ذلك شأن كل السور المكية مع الإشارة الي بعض صور العقاب الذي نال عددا من كفار ومشركي الأمم السابقة‏,‏ واستعراض عدد من طبائع النفس الإنسانية في كل من حالات الرخاء والشدة‏,‏ واستنكار عدد من الأمراض النفسية‏,‏ مع توضيح أن الابتلاء بالخير والشر هو من سنن الله في عباده المكلفين‏.‏
هذا وقد سبق لنا استعراض ومضة الإعجاز التاريخي في ذكر قوم ثمود في القرآن الكريم وكذلك لم تذكر كتب التاريخ القديم شيئا عن هاتين الأمتين البائدتين مع إفاضتها في ذكر أمم أقدم منهما‏,‏ وأمم معاصرة لكل منهما‏,‏ وأمم لاحقة بهما‏.‏ ثم تأتي الكشوف الآثارية في أواخر القرن العشرين لتؤكد صدق القرآن الكريم في كل ما أشار به الي كل من أمتي عاد وثمود والي النبي الذي أرسل الي كل منهما‏:‏ نبي الله هود ونبي الله صالح ـ علي نبينا وعليهما من الله السلام‏.‏
وفي هذا المقال نستكمل رواية القرآن الكريم عن قوم ثمود ونبرز جوانب الإعجاز العلمي والتاريخي في قول ربنا ـ تبارك وتعالي‏:‏
(‏وثمود الذين جابوا الصخر بالواد‏)(‏ الفجر‏:9).‏
من الإعجاز العلمي والتاريخي في الآية الكريمةتقع مدائن صالح عاصمة قوم ثمود في منطقة الحجر بوادي القري علي الطريق القديم بين المدينة المنورة وتبوك في إقليم العلا‏,‏ والمنطقة تتكون أساسا من صخور رملية عالية المسامية والنفاذية تنبع فتكون جبل الساق الذي يمثل أهم خزان للمياه تحت السطحية في شبه الجزيرة العربية‏,‏ وتحد المنطقة من الغرب حرة عويرض المكونة من الصخور البازلتية والتي ينتج عن تعريتها رواسب طينية غنية بالمواد اللازمة للإنبات تملأ الأودية العديدة التي تقطع أراضي المنطقة‏,‏ ومن هنا كانت المنطقة مهيأة تهيئة كاملة للإعمار‏,‏ كما كانت منطقة آمنة لإحاطتها بالجبال من كل جانب‏,‏ ويشير القرآن الكريم الي ذلك بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي لسان نبيهم صالح ـ عليه السلام‏:‏ـ

(‏أتتركون فيما ها هنا آمنين‏*‏ في جنات وعيون‏*‏ وزروع ونخل طلعها هضيم‏*‏ وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين‏*‏ فاتقوا الله وأطيعون‏*‏ ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون‏)(‏ الشعراء‏:146‏ ـ‏152).‏
وكان القوم عمالقة جبارين في الأرض وكان الله ـ تعالي ـ قد ابتلاهم ببسطة في الجسم‏,‏ وسعة في الرزق‏,‏ فأصابهم شيء من الغرور والبطر والاستعلاء في الأرض‏,‏ فأشركوا بالله ـ تعالي ـ بعد أن كانوا موحدين‏,‏ وقد حمل أسلافهم ذكري هلاك قوم عاد الذين كانوا قد انحرفوا الي الشرك من قبل فأبادهم الله ـ تعالي ـ ونجي نبيه هودا والذين آمنوا معه‏,‏ وكان من هؤلاء الناجين أسلاف قوم ثمود ولذلك يجمع القرآن الكريم بين عاد وثمود في العديد من الآيات من مثل ما جاء في سور الأعراف‏,‏ التوبة‏,‏ إبراهيم‏,‏ الفرقان‏,‏ ص‏,‏ ق‏,‏ النجم‏,‏ الفجر‏,‏ ومنها قوله ـ تعالي ـ علي لسان نبيه صالحا ـ عليه السلام ـ موجها الخطاب الي قومه ثمود قائلا لهما‏:‏

(‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد‏….)(‏ الأعراف‏:74).‏
وبالرغم من ذلك انحرفت غالبية قبيلة ثمود فأرسل الله ـ تعالي ـ إليهم نبيه صالحا ليصلح لهم دينهم‏,‏ ويردهم الي التوحيد من جديد‏,‏ فما آمن معه إلا قليل منهم‏.‏
وفي قول ربنا ـ تبارك وتعالي‏:‏ ـ‏(‏ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد‏)(‏ الفجر‏:9)‏
ومضة تاريخية وعلمية معجزة لأنه لم يكن أحد من الخلق في زمن الوحي والي أواخر القرن العشرين يعلم شيئا عن قوم ثمود غير ما جاء في القرآن الكريم وفي أحاديث سيد المرسلين ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏.‏
و‏(‏الجوب‏)‏ في اللغة هو القطع‏,‏ والتجويف‏,‏ والخرق وهي عمليات قام بها قوم ثمود في الجبال المحيطة بوادي القري علي الجانبين‏,‏ فنحتوا فيها القصور والبيوت والقبور‏,‏ ولم يكتفوا بذلك‏,‏ فكانوا يقطعون كتلا ضخمة من صخور الجبال‏,‏ ويأتون بها الي بطن الوادي‏,‏ ثم ينحتون منها القصور‏,‏ والدواوين‏,‏ والمساكن من طابقين وثلاثة طوابق بالدرج الخارجي والمداخل المقامة علي الأعمدة المزدانة بأدق النقوش والزخارف والدرج الداخلي وتجاويف كل من الغرف والممرات والأبواب والنوافذ والشرفات‏,‏ وقد ساعدهم علي ذلك قلة تماسك الصخور الرملية‏,‏ وسهولة تشكيلها‏,‏ مع تباين ألوانها من البياض الي الصفرة والحمرة‏,‏ وقد وصف القرآن الكريم تلك الأعمال الخارقة للعادة بقول ربنا ـ تبارك وتعالي‏:‏ـ

(‏وثمود الذين جابوا الصخر بالواد‏)(‏ الفجر‏:9)‏
وقال ـ عز من قائل ـ مخاطبا قوم ثمود علي لسان نبيهم صالح‏(‏ عليه السلام‏):‏ ـ

(‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏.(‏ الأعراف‏:74)‏
وكذلك قال ربنا ـ وقوله الحق ـ علي لسان نبيه صالح مخاطبا قومه‏:‏ـ

(‏وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين‏)(‏ الشعراء‏:149)‏
ومدائن صالح بقصورها‏,‏ ودواوينها ومساكنها وقبورها المنحوتة في الجبال المكونة لجانبي وادي القري‏,‏ وفي الكتل الصخرية الهائلة المجلوبة الي بطن الوادي تمثل نموذجا معماريا فريدا‏,‏ مقسما بعدد من الشوارع الفسيحة‏,‏ المستقيمة‏,‏ والمنظمة تنظيما دقيقا والمقطوعة في الكتلة الجبلية المكونة للمنطقة مما يدل علي الجهود الجبارة التي بذلت في تخطيط وإنشاء تلك المدينة الفريدة من نوعها‏,‏ وإن كان الأنباط من بعد ذلك قد أقاموا مدينة البترا‏(‏ مدينة الصخر أو المدينة الوردية أو سلع‏,‏ أو رقيمو باللغة النبطية‏)‏ علي منوال مدائن صالح في سنة‏(400)‏ ق‏.‏م‏.,‏ وتم اكتشافها سنة‏1812‏ م علي يد الأثاري السويدي يوهان بيركاردت‏,‏ ثم انتهت دولة الأنباط سنة‏(105)‏ ق‏.‏م بواسطة الغزو الروماني للمنطقة العربية‏.‏
ودراسة منطقة الحجر تؤكد أن بعض جبال مدائن صالح مفرغة من الداخل تفريغا هندسيا رائعا يجعل منها السكن‏,‏ والستر‏,‏ والحصن‏,‏ والوقاية‏,‏ ومناطق الدفاع عن المدينة‏,‏ وممرات التحرك والتنزه فيها‏.‏
والأودية التي تقطع جبال المنطقة ثم حفر الآبار فيها‏(‏ وإن كان أغلبها مطمورا الآن‏),‏ وبذلك تم تهيئتها للزراعة‏.‏
ولا يمكن لزائر المنطقة أن يتخيل كيفية نقل الكتل الصخرية الهائلة الي بطن الوادي‏,‏ ولا إمكانية تشكيل تلك الكتل علي هيئة القصور‏,‏ والدواوين‏,‏ والمساكن‏,‏ والقبور‏,‏ بالحفر في ذلك الزمن البعيد‏,‏ ولا إمكانية تزيينها بهذا القدر من الأعمدة والزخارف والنقوش المتقنة أشد الإتقان‏.‏
ومن ومضات الإعجاز العلمي والتاريخي في هذه الآية الكريمة تمييزها بين النحت في الجبال‏,‏ والنحت في الكتل الصخرية المجلوبة الي بطن الوادي‏,‏ وهو ما لا يقدر علي تمييزه إلا الخبراء في علوم الأرض‏,‏ خاصة أن أغلب الآيات التي تتحدث عن قوم ثمود وعن نبيهم صالح ـ عليه السلام ـ هي من الآيات المكية‏,‏ ورسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ لم يمر بمدائن صالح إلا وهو في طريقه لغزوة تبوك في السنة التاسعة بعد الهجرة‏.‏ فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال‏:‏ لما نزل رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بالناس علي تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقي الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا القدور فأمرهم رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ فأهرقوا القدور‏,‏ وعلفوا العجين الإبل‏,‏ ثم ارتحل بهم حتي نزل بهم علي البئر التي كانت تشرب منها الناقة‏,‏ ونهاهم أن يدخلوا علي القوم الذين عذبوا فقال‏:‏ إني أخشي أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم‏(‏ مسند الإمام أحمد‏).‏
كذلك روي الإمام أحمد عن عمرو‏(‏ عامر‏)‏ بن سعد ـ رضي الله عنه أنه لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس الي أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ فنادي في الناس‏:‏ الصلاة جامعة‏.‏ قال‏:‏ فأتيت النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وهو ممسك ببعيره وهو يقول‏:‏ ما تدخلون علي قوم غضب الله عليهم فناداه رجل‏:‏ نعجب منهم يارسول الله‏!‏ قال ـ صلي الله عليه وسلم‏:‏ ـ أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا‏,‏ وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا‏(‏ مسند الإمام أحمد‏).‏
وقد اختلف الباحثون في تحديد زمن قوم ثمود كما اختلفوا في تحديد زمن أسلافهم قوم عاد ولكن الإشارات القرآنية تؤكد أنهم كانوا قبل زمن نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ بفترة طويلة‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالي‏:‏ـ

(‏وقال موسي إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد‏.‏ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب‏)(‏ إبراهيم‏:9,8)‏
وهاتان الآيتان الكريمتان تؤكدان أن أقوام نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم كانوا قبل زمن نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ بفترة طويلة‏.‏ ويؤيد ذلك قول مؤمن آل فرعون الذي جاء نصه في القرآن الكريم علي النحو التالي‏:‏ـ

(‏وقال الذي آمن ياقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب‏.‏ مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد‏)(‏ غافر‏:30‏ و‏31)‏
ولما كان الآثاريون يؤرخون فترة حكم فرعون موسي رمسيس الثاني‏(‏ المعروف باسم فرعون الاضطهاد‏)‏ بالفترة من‏1301‏ ق‏.‏م‏)‏ الي‏(1234‏ ق‏.‏م‏)‏ فإن قوم ثمود لابد وأنهم عاشوا في النصف الأول من الألفية الثانية من قبل الميلاد علي أقل تقدير‏(‏ من‏2000‏ ـ‏1500‏ ق‏.‏م‏.)‏
ووجود العديد من النقوش الثمودية والنبطية والآرامية في أجزاء كثيرة من الجزيرة العربية‏(‏ بما فيها مدائن صالح‏)‏ يشير الي أن المنطقة قد سكنت بالعديد من الأقوام من بعد هلاك قوم ثمود لأن القرآن الكريم يؤكد هلاك المشركين من هؤلاء القوم هلاكا تاما وذلك بقول ربنا ـ تبارك وتعالي‏:‏ ـ

(‏وأنه أهلك عادا الأولي‏.‏ وثمود فما أبقي‏.‏ وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغي‏.‏ والمؤتفكة أهوي‏.‏ فغشاها ما غشي‏.‏ فبأي آلاء ربك تتماري‏.‏ هذا نذير من النذر الأولي‏)(‏ النجم‏:50‏ ـ‏56)‏
وكذلك قال ـ تعالي‏:‏ ـ‏(‏ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز‏.‏ وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين‏.‏ كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود‏)(‏ هود‏:66‏ ـ‏68).‏
أما وجود إشارات آثارية الي قوم ثمود في نقش للملك الآشوري سرجون الثاني‏(722‏ ـ‏705‏ ق‏.‏م‏)‏ سجل فيه انتصارات للجيوش الآشورية علي عدد من القبائل الثمودية في شمال الجزيرة العربية فإن هذه الآثار تشير بالتأكيد الي سلالات عدد من الناجين من دمار قوم ثمود‏,‏ خاصة أن هناك ما يشير الي أن عددا من الذين نجوا مع نبي الله صالح قد نزحوا الي كل من منطقة الطائف في جنوب الحجاز‏,‏ ومنطقة الرس في شمال شبه الجزيرة العربية‏.‏
من هذا الاستعراض تتضح ومضة الإعجاز العلمي والتاريخي في قول ربنا ـ تبارك وتعالي‏:(‏ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد‏)‏ وفي استعراض القرآن الكريم لقصة نبي الله صالح ـ عليه السلام ـ مع قومه ثمود الذين أغفلتهم كتب التاريخ القديم إغفالا كاملا‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق